خطاب “ما أريكم إلا ما أرى” الاقتصادي للحكومة الانتقالية
الكاتب : حسام عثمان محجوب
محورية الاقتصاد في أسباب خروج الشعب السوداني الباسل في ثورة ديسمبر المجيدة، مما لا يختلف عليها اثنان، وبنفس القدر، فبعد سنة ونصف السنة من تشكيل الحكومة الانتقالية، هناك إجماع على السوء البالغ للأوضاع الاقتصادية، بما يهدد عملية الانتقال نفسها.
ورغم الغياب الواضح للرؤية الاستراتيجية وللبرامج الكلية والسياسات العامة للحكومة ولرئيس وزرائها (حتى وصلنا مرحلة أن صرح الدكتور حمدوك في ديسمبر الماضي، بأن أولويات الحكومة الانتقالية العشر، التي وضعتها حين تشكيلها غير قابلة للتحقق، وأن الدرس المستفاد بعد سنة أن تركز الحكومة على ٣-٤ أولويات منها لتطبقها، دون أن يعلق على هذا التصريح أي سياسي أو مسؤول)، فإن البرنامج الاقتصادي للدكتور إبراهيم البدوي، وزير المالية والتخطيط الاقتصادي الأسبق، يظل أحد الاستثناءات القليلة لهذا الغياب، وربما أهمها.
د. إبراهيم طرح برنامجه منذ توليه أعباء الوزارة في منابر عديدة، والتف حوله كثير من الاقتصاديين والسياسيين والمواطنين العاديين، وحتى بعد أن استقال من الوزارة استمرت الحكومة في تنفيذ برنامجه في أبرز توجهاته، ولذلك فهو عملياً البرنامج الاقتصادي للدكتور عبدالله حمدوك وحكومة الفترة الانتقالية.
كما واصل البدوي التبشير بهذا البرنامج بقوة، موضحاً غير مرة، أنه لا ينوي العمل في حكومة انتقالية مرة أخرى، ومشيراً إلى طموح مشروع، في لعب دور سياسي (تُفهم أكبر) عبر انتخابات ديمقراطية قادمة. وكما شهدنا في أمثلة عديدة، فقد انتشرت حالة تحسر وسط جموع من الجماهير على خسارتنا لدكتور البدوي، وعلى تضييعنا لبرنامجه الذي كان سيخرج السودان من حفرته الاقتصادية، التي رمتنا فيها سنين الإنقاذ العجاف.
أحاول في هذا المقال تسليط الضوء على بعض مرتكزات البرنامج الاقتصادي للحكومة، فأبدأ بسرد مختصر لرؤية د.إبراهيم البدوي الاقتصادية، ثم أذكر بعض خصائص خطابه، التي يستعملها هو والحكومة للترويج للبرنامج ولمهاجمة الآراء المخالفة. وبعد ذلك أوضح العلاقة بين الوضع الاقتصادي الحالي والبرنامج، وأناقش ببعض التفصيل أهم أركان البرنامج، وهي: رفع الدعم، وتعويم الجنيه، والدعم النقدي المباشر، والبرنامج المراقب من موظفي صندوق النقد الدولي، وزيادة التحصيل الضريبي.
وأتحدث في الختام عن المستفيدين من تطبيق برنامج الحكومة الاقتصادي، وعن أخطار المواصلة في تطبيقه. أركز في المقال على خطاب د.إبراهيم البدوي باعتباره منظّر البرنامج الاقتصادي وأكبر مروجيه، مع تحميل مسؤولية القرارات الاقتصادية كاملة للسيد رئيس الوزراء الانتقالي، د.عبد الله حمدوك، فهو المسؤول الأول في الحكومة منذ اليوم الأول.
ليس غرضي من المقال انتقاد دكتور إبراهيم، ولا المناقشة التفصيلية لآرائه، وأعرف وأحترم علم الرجل وخبرته وتهذيبه، ولا أشكك في إخلاصه هو ومؤيديه. ولذلك لن أتحدث كثيراً عن الفرق بين خطابه قبل تعيينه والفترة الأولى لتوليه وزارة المالية (حين كان يتحدث باستفاضة وتكرار عن أشياء مثل توظيف الشباب “30 ألفاً على الأقل”، وبرنامج “القطوف الدانية”، والحوار المجتمعي)، وبين الفترة اللاحقة التي لم تعد هذه المواضيع تحتل فيها ذات الموقع في حواراته وندواته (كمثال، يمكن بوضوح ملاحظة الفرق بين ورقته المسماة “حرية، سلام وعدالة والثورة خيار الشعب، كمرجعية لبرنامج الثورة الاقتصادي”، الصادرة في أبريل 2019، التي ربما لعبت دوراً في ترشيحه للوزارة، ومجمل خطاباته في سنة 2020 أثناء وبعد الوزارة بما فيها ورقته الأخيرة “حول إصلاح الاقتصاد السوداني: الرؤية، البرامج والسياسات”، الصادرة في أكتوبر 2020). كما لا أتحدث عن أخطائه المنهجية في تعيينات الوظائف العليا بالوزارة وهيئاتها، التي سردها في لقائي معه في أكتوبر 2020 في برنامج “وإن طال السفر”، على قناة “سودان بكرة”.
برنامج د. البدوي الاقتصادي
قدم الدكتور إبراهيم البدوي رؤاه عن حال الاقتصاد السوداني وبرنامجه لإصلاحه في منابر متعددة، في أوراق منشورة، وحوارات صحفية، ولقاءات تلفزيونية، وندوات، ومحاضرات، وظل في كل ذلك يقدم برنامجه بطريقة تبدو سلسة ومرتبة ومنطقية، ويمكن تلخيص بعض أهم أركان “سرديته” في الآتي:
- تركة نظام الإنقاذ الاقتصادية الثقيلة التي ألقت بنا في هذه الحفرة، هي نظام الدعم السلعي، وتعدد أسعار صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية. وكي تكون هناك فرصة لإصلاح الاقتصاد يجب القيام بعدد من الإجراءات لمعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي فوراً، أهمها:
- رفع الدعم عن السلع، وبالذات الوقود.
- تعويم سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية.
- زيادة الجهد “التحصيل” الضريبي.
- لتخفيف تأثير صدمة تطبيق الإجراءات السابقة على المواطنين، يجب تطبيق الآتي:
- الدعم المباشر للأسر- برنامج التحويل النقدي المباشر للأسر “ثمرات”.
- توفير السلع الضرورية بأسعار مخفضة عن طريق التعاونيات – برنامج “سلعتي”.
- زيادة مرتبات العاملين في الدولة- “الهيكل الراتبي الجديد”.
- لتنفيذ الإجراءات والبرامج السابقة يجب:
- تنفيذ البرنامج المراقب من قبل موظفي صندوق النقد الدولي (Staff-Monitored Program – SMP).
- الحصول على تمويل من مؤسسات التمويل الدولية والدول الصديقة (معونات وديون واستثمارات).
- تأسيس وكالة التحول الرقمي في وزارة المالية لرقمنة أنظمة الدولة المالية والإشراف على برنامج ثمرات.
أثناء سرد البرنامج (وبالطبع فهذه النقاط التي أوردتها ليست كل بنوده) يذكر الدكتور إبراهيم بعض المصطلحات والمفاهيم والمعلومات والآراء التي توضح وتعضد رؤيته، أو تبين أن البرامج الأخرى المطروحة غير قادرة على الاستجابة للتحديات التي يواجهها السودان. وانتشرت هذه اللوازم أو تكرر استعمالها من كثيرين، على رأسهم السيد د. عبدالله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي وطاقمه الاقتصادي وعدد من الاقتصاديين والسياسيين وداعمي البرنامج. من هذه الجمل أن الاقتصاد علم، ومبني على أرقام، ومن الخطأ مقاربة الاقتصاد مقاربة سياسية، وأن البرنامج الاقتصادي برنامج براغماتي يرفضه مخالفوه من منطلقات آيديولوجية. ويذكر الدكتور إبراهيم والدكتور حمدوك أمثلة لبعض الدول والشخصيات تعضيداً لرؤيتهما، كما يلقيان اللوم بجرأة عجيبة على اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير في تعطيل البرنامج الاقتصادي وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ويكثر الدكتور البدوي من ذكر العقد الاجتماعي، ويتحدث عن الديمقراطية الاجتماعية، ويشير لعدد كبير من التجارب والدراسات والبحوث التي أجريت في مناطق مختلفة من العالم.
الاقتصاد بين الآيديولوجيا والبراغماتية والسياسة والأرقام
من أخطر المغالطات التي يروجها خطاب الحكومة الاقتصادي وعرابوه ومؤيدوه، أن الاقتصاد علم مبني حصرياً على الأرقام، وأن البراغماتية ميزة ونقيضة للآيديولوجيا، التي هي تلميح تهمة يجب أن يتوارى معتنقوها عن الأنظار ويوضعوا في المتاحف، ويتم تعضيد هذه المفاهيم بحديث مرسل عن شعارات “لن يحكمنا البنك الدولي” التي يتم الإيحاء بأن الرافضين لبرنامج الحكومة يهتفون بها من غرف اجتماعاتهم المغبرة الخارجة من ألبوم صور شيوعي وماركسي، وبحديث عن دول اشتراكية لا يمكن المزايدة على اشتراكيتها طبقت برامج البنك الدولي وعبرت، مثل فيتنام والصين.
الاقتصاد علم، نعم، ولكنه ليس الفيزياء، إذ يشوبه خليط من الآيديولوجيا والمصالح الطبقية المتخفية خلف المعادلات، وعلى كل حال هو علم واسع وكبير، وفيه مدارس متعددة، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة والاجتماع والثقافة، وحتى بعلم النفس والسلوك البشري، وأهم من ذلك كله، خصوصاً الآن، أنه يرتبط بمعاش الناس، وينعكس عليهم سلباً أو إيجاباً بصورة فورية.
كما أن من يلمح لأن العلم محايد، حتى وإن كان مبنياً على أرقام، فهو إما مخادع أو، إن أحسنا الظن، ساذج. هناك كم كبير من الحديث النظري الفلسفي عن مدى حيادية العلوم، ولكن تكفي النماذج المعاصرة التي نعرفها جميعاً. فمثلاً في جائحة الكورونا، أخذ كثير من العلماء مواقف غاية في الاختلاف في التفسير أو التوصيات، يمكن للقراء البحث عن العلماء الذين أيدوا ترمب مثلاً، ومنهم مستشاره سكوت أتلس الذي عينه من أساتذة كلية الطب بجامعة ستانفورد العريقة. وهناك العلماء الذين وفروا غطاءً علمياً مزعوماً للعنصرية النازية، وهناك علماء فترة تأصيل العلوم في السودان، وقرناؤهم من متبعي نظريات شبيهة من مختلف الأديان والمذاهب.
أما عن الاقتصاد تحديداً، فلو كانت الأرقام فيه محايدة، لما شهدنا هذه المدارس المختلفة، ولما شهدنا الأزمات الاقتصادية والمالية المتعاقبة في العالم وفي الدول الرأسمالية تحديداً، باعتبار أن من يتحدث عن علمية الاقتصاد وحيادية الأرقام مقتنع في الغالب بأن النظام الرأسمالي السائد اليوم هو الحل. أضف إلى ذلك أن الخلاف الحالي في السودان حول طبيعة التوجه لا ينقسم فيه القوم إلى اقتصاديين إزاء سياسيين آيديولوجيين. ففي كل معسكر يوجد كبار وصغار الاقتصاديين، كما يوجد أصحاب المهن الأخرى، وهذا وحده دليل كافٍ على أن الاقتصاد ليس علماً قطعياً كالعلوم الطبيعية، حتى لو غضضنا النظر عن أن العلوم الطبيعية نفسها، بما في ذلك التكنولوجيا، تفارق الحياد حينما تتنزل إلى مستوى الممارسة والتطبيق.
الحديث عن البراغماتية وكأنها اكتشاف جديد مضاد للآيديولوجيا، تولى قصب السبق فيه الدكتور حمدوك، حيث استخدمها جماهيرياً في لقائه التلفزيوني الأول بعد تكليفه حين استضافه الأستاذ فيصل محمد صالح – قبل تعيينه وزيراً. الآيديولوجيا ليست تهمة، والبراغماتية هي نفسها آيديولوجيا، من حيث إن الآيديولوجيا بصورة مبسطة هي نظام معرفي للنظر للعالم وتفسيره. الآيديولوجيا في خطاب الدكتورين حمدوك والبدوي تحمل مدلولاً سالباً، وكثيراً ما تكون بغرض التلميح بأن معارضي برنامجهما هم إما شيوعيون أو اشتراكيون، وبأن هذه المدارس والتجارب التاريخية هي بالضرورة فاشلة، لا تستحق النقاش، ويجب ألا يضيع معتنقوها زمن الشعب السوداني في الدفع بها أو الدفاع عنها.
براغماتية الدكتورين، ومعهما برنامج الحكومة، هي في الحقيقة إيمان مطلق بالنظام الرأسمالي، وبالآيديولوجيا النيوليبرالية. من حق كل شخص أن يتبنى الرأسمالية أو النيوليبرالية، ولكن ليس من حق أحد أن يرمي الآخرين بالتحجر وعدم الفهم، لاختلاف طريقة رؤيتهم للعالم. تتجلى آيديولوجية الدكتور البدوي مثلاً في اختياره للدعم السلعي وتعدد أسعار الصرف، كأهم تركتين لنظام الإنقاذ، وعدم اختياره للفساد، أو لخصخصة مؤسسات الدولة لمصلحة أنصار النظام، أو لتدمير القطاعات الإنتاجية، أو للصرف غير المتوازن على القطاعات الدفاعية والأمنية على حساب الخدمات والتنمية، أو لعدم العدالة في توزيع الدخل والفوائد الاقتصادية بما فيها الإعفاءات الجمركية والضريبية، أو لجموح التضخم الناجم عن الإفراط في طباعة العملة لتمويل عجز الموازنة المتفاقم. رغم ذكر البدوي لعدد من هذه القضايا في مواقع مختلفة، إلا أنه يعلم أن تفسير ومعالجة كل واحدة منها تتطلب رؤية مختلفة عن رؤيته وبرنامجه، ولذلك فإن إبرازه للدعم وأسعار الصرف فقط هو نتيجة منطقية لآيديولوجيته، براغماتيةً كانت أو نيوليبراليةً.
ما صنع الحداد.. أو يدا الحكومة
يتبع هذا الحديث عن البراغماتية والآيديولوجيا اتهامات مباشرة للجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير بقصور الرؤية، وعدم المرونة، وعدم الفهم الاقتصادي، وتغليب السياسة، والتمسك بشعارات عفا عليها الزمن، والتسبب في تعطيل العمل بالبرنامج الاقتصادي، والتشاكس، وتحميلها مسؤولية الوضع الاقتصادي المزري الذي وصل إليه الوطن.
وللأسف فقد صاحب هذا الحديث المكرر كذب صريح من السيد رئيس الوزراء، كما ظهر في نقاش ميزانية 2020 أواخر عام 2019 حين اتفق د. حمدوك مع اللجنة على تعديل الموازنة، ثم أجاز في اليوم التالي موازنة أخرى مختلفة. ويبدو هنا أن كلاً من الدكتورين يودان أكل الكعكة والاحتفاظ بها في نفس الوقت، فبرنامج الدكتور البدوي قد تم تطبيقه فعلياً بدون إعلان بنوده الكبيرة جماهيرياً، كما أن رئيس الوزراء له من العلم والخبرة والسلطات (والدعم الجماهيري أيامه الأولى)، ما يجعله قادراً على اتخاذ القرارات المناسبة، وإقناع أصحاب المصالح المختلفين بها، ولكنه هو وطاقمه اختاروا عدم مكاشفة الشعب، وتمرير السياسات عبر إخراج رديء للمؤتمر الاقتصادي، الذي كان من الممكن أن يكون منصة انطلاق مناسبة للنهوض بالاقتصاد لو أرادوا ذلك.
من ناحية أخرى، فقد أوضح عدد من أعضاء اللجنة وقياديي أحزاب قوى إعلان الحرية والتغيير – بغض النظر عن تفككها – مثل د. صدقي كبلو والبروفيسور أحمد حامد القياديين بالحزب الشيوعي، بوضوح شديد لا لبس فيه، أنهم لم يرفعوا شعار “لن يحكمنا البنك الدولي”، وأنهم يعتبرون أننا كأعضاء في المجتمع الدولي ومنظماته، من حقنا أن نستفيد من عضويتنا فيها، ومن بينها البنك وصندوق النقد الدوليين، إلا أنهم أوضحوا أن اختلافهم مع برنامج البدوي والحكومة، سببه أنهم يرون أننا يجب أن نتعامل مع هذه المنظمات باستقلالية، وبمعرفة لما نريده منها، وكيف نحصل عليه منها بما يراعي ظروفنا وواقعنا.
خصائص خطاب البدوي
ومن خصائص خطاب البدوي ومريديه، تبخيس قدر اللجنة الاقتصادية حتى يخيّل لغير العارفين أنها مجموعة من الجهلاء والمهرجين. وتبدو المخادعة في هذا المستوى من الخطاب، أن الدكتور إبراهيم البدوي يتجاهل ــ عن عمد ــ ذكر أن من أشرس منتقدي برنامجه علماء اقتصاد من خارج اللجنة، يأتون من نفس خلفيته الأكاديمية والمهنية، وعلى رأسهم الدكتور التجاني الطيب إبراهيم، الخبير الاقتصادي، الذي عمل عقوداً في البنك الدولي وصندوق النقد، واختاره آخر رئيس وزراء منتخب، الإمام الراحل الصادق المهدي، وزيراً للدولة في وزارة المالية في الديمقراطية الثالثة، والذي ظل ــ بدأب كبير ــ يقدم النصائح والتحذيرات والانتقادات لبرنامج البدوي منذ أيامه الأولى، عن معرفة واسعة وعميقة، وما زال، ويمكن للقراء الرجوع لمقالاته وحواراته ليروا تحقق توقعاته هو والاقتصاديين الأجلاء والعلماء د. علي عبدالقادر، ود. صديق أمبده، ود. معتصم الأقرع، ود. بكري الجاك المدني ود. خالد التجاني، الذين واصلوا الكتابة والحديث عن خطورة البرنامج وافتراضاته وتطبيقه، أو انتقدوا بعض جوانبه المهمة. كما أن اللجنة الاقتصادية، رغم غلبة الصوت العالي غير المفيد لبعض أعضائها إعلامياً، ورغم تعدد مدارس أعضائها الاقتصادية والفكرية والسياسية، بها عدد مقدر من علماء الاقتصاد، الذين يعلمون واقع السودان أكثر بكثير من معرفة د. البدوي ود. حمدوك، كما اتضح للمواطن العادي من واقعهم المعاش، ناهيك عن الاقتصاديين المحترفين. تكررت الاتهامات للجنة الاقتصادية ولمنتقدي البرنامج، بأنهم يجيدون الانتقاد ولا يقدمون الحلول، ولا يملكون برنامجاً متكاملاً. وفي ذلك برع الدكتور البدوي في تسمية برنامج اللجنة الاقتصادي بالرؤية القطاعية البديلة، تقليلاً له، في مقابل برنامجه الذي يهدف لإصلاح الاقتصاد الكلي. وقد ذكر عدد من أعضاء اللجنة الاقتصادية، أنهم تقدموا ببرنامج متكامل، وأن وزارة المالية والحكومة لم تقدما لهم المعلومات المطلوبة ليكون برنامجهم أكثر تفصيلاً، وهذا خلل يتحمله رئيس الوزراء الانتقالي ووزير المالية وقيادة قوى إعلان الحرية والتغيير. وقد تكررت وتواصلت هذه الممارسة وظهرت بأوضح شكل في إعداد موازنة 2021، حين تحدث عدد من ممثلي الأجسام المعتبرة والمسؤولة عن عدم إشراكهم، أو عن إخفاء كثير من المعلومات عنهم، أو عدم إطلاعهم على النسخة الختامية للموازنة قبل إجازتها.
ويستعمل الدكتور إبراهيم البدوي حيلة أخرى معروفة في تحليل الخطاب، هي اقتطاع جزء من خطاب الخصم وتفسيره وإثبات خطله، للتدليل على معرفته وإحاطته بالخطاب البديل وبعدم جدواه. في ذلك كثيراً ما يذكر البدوي اقتراح الدكتور صدقي كبلو، بوقف استيراد بعض السلع الكمالية لتوفير النقد الأجنبي الذي يفقده السودان بشرائها، ويذكر أن هناك دراسة أجريت أثبتت أن هذا المبلغ بسيط يقدر بـ 1.3 مليار دولار، والحقيقة أن هذا مبلغ كبير كنسبة من عائد الصادرات من العملات الأجنبية، أو كنسبة من فاتورة الواردات، أو إذا ما أخذ ضمن حزمة برامج متكاملة، ولكن د. البدوي يرفضه ببساطة وبتعالٍ “شحات وبيتشرط!”، ولا حتى كعامل مساعد يمكن أن يدخل ضمن برنامجه طالما كانت هذه السلع كمالية، ولن يخرج الشعب ليتظاهر إن غابت عن أسواقه ضحى الغد.
القصف بالمعلومات والأوراق البحثية
من التكتيكات المعروفة في التواصل مع الجماهير أيضاً، الإغراق بالمعلومات، وما أسهل هذا في عصرنا؛ يتحدث الدكتور إبراهيم البدوي في ورقته الأخيرة عن دراسة أوضحت نجاح تجربة الدعم المالي المباشر في ستة وخمسين برنامجاً، دون تفاصيل توضح الفروق بينها وبين الواقع السوداني، بينما يكرر الحديث الانتقائي فيما يشبه قطف الكرز (cherry picking) عن نجاحها في إحدى مناطق كينيا وفي البرازيل، أو عن نجاح تشيلي في تعويم العملة، دون أن يوضح مثلاً أن تجربة كينيا كانت تقتضي منح كل فرد ما يقارب 18 دولاراً في الشهر، لا 5 دولارات، كما هو مخطط في السودان، ودون أن يوضح أن برازيل لولا دا سيلفا التي طبقت هذه التجربة، قدمت نموذجاً مختلفاً ذا صبغة اشتراكية، ساد فيها التفاوض بندية مع مؤسسات التمويل الدولية، وأن هذا البرنامج كان واحداً من حزمة كبيرة من الإصلاحات التي انحازت للفقراء.
ولا يذكر الدكتور إبراهيم أنه رغم بعض التنازلات؛ للبنك والصندوق في برنامجه، فإن ذلك لم يشفع له ولا لخليفته ديلما روسيف، وكان تآمر المجتمع الدولي على التجربة صارخاً، وكأنه قرر تقديمها قرباناً تحذيرياً لمن تراوده نفسه بتكرارها، حتى أسقط التآمر لولا وديلما، وانتهت البرازيل تحت حكم اليمين المتطرف، النيوليبرالي، الشعبوي، شبه الفاشي. ودون أن يوضح البدوي أيضاً أن البرنامج الاقتصادي للحكومة التشيلية، ووجه بمعارضة جماهيرية واسعة النطاق، لما نتج عنه من زيادة في عدم المساواة الاقتصادية. كما قادت المعارضة للإسراع بإقرار دستور جديد في البلاد، ولمزيد من تنظيم الصفوف لمواجهة البرنامج.
المثال الآخر لذلك، هو حديث د. البدوي ود. حمدوك عن فيتنام (ودكتور البدوي منفرداً عن الصين)، وهما دولتان أسستا نظامين اشتراكيين في القرن الماضي، ركزا على تأسيس بنى تحتية وبشرية متينة، بعد تاريخ حافل من الثورة والنضال وملايين الضحايا، ثم اتجهت الدولتان للتعامل مع مؤسستي بريتون وودز والأسواق العالمية في العقود الأخيرة من موقع شديد الاستقلالية، وحسب احتياجاتهما الخاصة، لا وصفات جاهزة في رفوف مؤسسات الخارج.
ما يتجاهله الدكتور في التجربتين أنهما انطلقتا من مواقع مستقلة في التعامل مع البنك وصندوق النقد الدوليين، وليس من منطلق التبعية المطلقة التي يدعوان لها في حالة السودان. ونفس الأمر ينطبق على المثال الإثيوبي الذي يكررانه، فرغم فشل نظام الدرق الاشتراكي في تحقيق نفس مستوى تطور الصين أو فيتنام في البنى التحتية والبشرية، إلا أن تعامل نظام مليس زيناوي مع البنك والصندوق الدوليين، يصلح مثالاً مدرسياً نموذجياً للتعامل معهما من مواقع مستقلة تعرف تماماً ما تريد، وتفاوض للحصول عليه.
ومع مثالي إثيوبيا وفيتنام، ذكر د. إبراهيم عدداً من المرات استعانتهما بالبروفيسور جوزف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، والأستاذ بجامعة كولومبيا الأمريكية، وكبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي، ورئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي بيل كلينتون. وقد أورد د. إبراهيم ذلك ليدلل على براغماتية فيتنام وإثيوبيا، وتعاملهما مع البنك الدولي رغم خلفيتهما الآيديولوجية. وفي هذا التلميح من البدوي مغالطة لا أخاله لا يعلمها، فهو يعرف تماماً أن ستيغليتز أقيل من البنك الدولي لمعارضته العلنية لسياسات البنك والصندوق والاقتصاد الحر، وأنه يعتبر أحد أهم المنتقدين لسياساتهما بكتاباته المهمة عن العولمة المفرطة والرأسمالية وعدم المساواة، وأنه خلال تقديمه استشارات لعدد من الدول، ومنها إثيوبيا وفيتنام، كان حريصاً على الموقف المستقل لهما إزاء شروط البنك والصندوق.
كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟
كتب الدكتور بكري الجاك المدني أستاذ السياسة العامة والإدارة في مقال بصحيفة الديمقراطي يوم 30 يناير: “لم تقدم هذه الحكومة أي رؤية اقتصادية أو برنامج متكامل للتعاطي مع الخراب الموروث سوى القليل من الإنشاء والكثير من الأمنيات”، وذكر أن قرارات د. البدوي الأحادية المتعجلة وغير المدروسة انعكست في معدلات تضخم كارثية ستستمر وسيكون كل يوم أسوأ من سابقه، وإن اقتصاد البلاد الآن في حاجة ماسة إلى معالجة أمرين، هما السيطرة على التضخم وتحقيق استقرار نسبي في سعر الصرف، ما لم يحدث هذا سوف لن تتحرك عجلات إنتاج ولن تعود عملية دمج السودان في منظومة الاقتصاد العالمي بأي فائدة.. العلاج يبدأ بسد عجز الموازنة.. بوقف الصرف البذخي على كل الجهاز التنفيذي وتكثيف الجهد لزيادة الإيرادات.. حينها فقط يمكن الحديث عن خطط تنموية طويلة المدى لمعالجة التشوهات الهيكلية من معالجة الدعم وتحويله لدعم مباشر، يستهدف شرائح محددة ومعالجة تشوهات الأسواق. أما الحديث عن مساعدات وأموال قادمة من الخارج، فهذه حتى وإن أتت مع تحفظنا على إمكانية ذلك نتيجة للتراجع في الاقتصاد العالمي بكلياته بسبب جائحة الكورونا، فسوف لن يكون لها تأثير كبير”.
يحفظ للدكتور إبراهيم البدوي، ومن بعده للوزيرة المكلفة السابقة د. هبة محمد علي، إدراكهما لأهمية الإعلام والتواصل مع الشعب، وحرصهما على الرسالة الإعلامية للوزارة وسياساتها، ومن ذلك استعمال ألفاظ مخففة تقوم مقام أخرى غليظة، فيستعملان ترشيد الدعم بدلاً من رفع الدعم، وتوحيد سعر صرف الجنيه بدلاً من تعويمه. ورغم أن البدوي أقر بشجاعة في لقائه في قناة سودان بكرة في أكتوبر 2020، بأنه يتحمل مسؤولية الوضع الاقتصادي، إلا أنه وضع عدداً من التحفظات تعفيه عملياً من هذه المسؤولية. والواقع أن البرنامج المطبق حالياً هو برنامجه نفسه، إلا أن تطبيقه لم يتم بالشفافية التي ظل ينادي بها د. إبراهيم بعد أن خرج من الحكومة. فقد بدأ رفع الدعم عن الوقود منذ أوائل 2020، بطرح وقود بسعر تجاري في ظل ندرة حتى تم رفع الدعم تماماً أواخر العام.
وقد بدأ تعويم الجنيه الفعلي بإنشاء محفظة السلع الاستراتيجية من عدد من الشركات ورجال الأعمال والبنوك التي تقوم باستيراد بعض السلع الاستراتيجية بالعملة الصعبة بعد تصدير مواد يتم شراؤها بالجنيه السوداني وسعر الصرف الفعلي المطبق هو سعر السوق الموازي/الأسود (غير المشاكل الأخرى المحيطة بالمحفظة وخصوصاً المتعلقة بالأطراف المشكلة لها)، ثم تم التمهيد للإعلان النهائي عن التعويم بسياسات بنك السودان الجديدة التي تسمح للمغتربين بتحويل الأموال عبر البنوك بسعر السوق الموازي، حتى أعلنت الحكومة رسمياً عن التعويم يوم الأحد 21 فبراير. وقد التزمت الحكومة بتطبيق البرنامج المراقب من قبل موظفي صندوق النقد الدولي في يونيو 2020، وكانت قد طبقت الهيكل الراتبي الجديد في مايو من نفس العام.
رغم تحفظات د. البدوي واتهامات د. حمدوك لقوى الحرية والتغيير (أو لجهات خرجت من قوى الحرية والتغيير، كما ذكر وزير المالية الجديد د. جبريل إبراهيم في برنامج حوار البناء الوطني على تلفزيون السودان بعد أيام من تسلمه منصبه)، بالتسبب في الوضع الاقتصادي الحالي، فإن هناك عدداً من الشواهد المهمة التي تلقي بالمسؤولية المباشرة عن حالة الضنك التي يعيشها السودان ومواطنوه على برنامج الحكومة الاقتصادي. والأمر المؤسف حقيقة أنه قد تعالت الكتابات والأصوات المحذرة من هذه الخطوات قبل اتخاذها، ولكن أصمت الحكومة آذانها عنها، ثم كانت إجابات د. البدوي كلما سُئل عنها غير شافية.
مبدئياً وضح عدد من معارضي برنامج البدوي، أنهم لا يرفضون نقاش رفع الدعم أياً كان اسمه، رفعاً أو ترشيداً أو زيادةً في الأسعار، ووضحوا أيضاً أنهم يطمحون لتوحيد سعر الصرف، ولكن خلافهم الأساسي مع البدوي يقوم على ضرورة وجود برنامج كبير يراعي كل المتغيرات الأخرى، وعلى توقيت تنفيذ هذه الخطوات، وعلى تحقيق مطلوبات معينة قبل القيام بها. أجمع المنتقدون- بين قضايا أخرى- على خطورة التضخم، والعجز الكبير في الميزان التجاري (الفرق بين قيمة الصادرات والواردات)، وزيادة الصرف الجاري مقابل قلة الصرف التنموي، والخلل في الإنفاق العام في قطاع الأمن والدفاع على حساب القطاعات الخدمية والإنتاجية، والاعتماد على المانحين. وأكد كثير من الاقتصاديين والسياسيين أن القيام برفع الدعم وتحرير سعر الصرف يعني تحميل المواطنين عبء الإصلاحات الاقتصادية، التي كان من واجب الحكومة أن تقوم بها في البدء، بينما فاقمت سياسة الحكومة من سوء هذه الأوضاع.
أوضح الأمثلة على هذه القرارات الكارثية زيادة المرتبات في مايو 2020، فنجد أن الدكتور التجاني الطيب، مثلاً، نادى في مقال نشره يوم 3 أكتوبر 2019، بأنه “من الأفيد الاحتراز من زيادة الأجور قبل السيطرة على التضخم الجامح وهبوطه إلى الرقم الأحادي”. وصرح بوضوح شديد مرة أخرى في 5 ديسمبر 2019 لصحيفة الانتباهة، بأن “زيادة المواهي ستؤدي إلى آثار كارثية”، ورغم أن البدوي أشار في حوار مع صحيفة السوداني في 30 سبتمبر 2019، إلى أن زيادة المرتبات تتطلب إعادة ترتيب وتقويم الخدمة المدنية، وتعتمد على الموارد المتاحة، إلا أنه قام بزيادة المرتبات بنسبة أكثر من 560%، وهي ما ساهمت في ازدياد التضخم بصورة انفجارية. وسريعاً ما التهم هذه الزيادات نفسها، بينما وضع اقتصاد البلاد واستقرارها على حافة السقوط الحر.
نفى الدكتور إبراهيم البدوي علاقة زيادة المرتبات بالتضخم، وفي إجابته على هذا السؤال الجوهري، ظل يعزو زيادة التضخم إلى ظاهرة “عدم اكتمال الأسواق”، التي أوضح أنه يقصد بها احتكار الأسواق وعدم تنافسيتها، ولم يحاول د. البدوي أن يشرح للمواطنين والمتابعين ما الذي “أنقص” هذه الأسواق فجأة حتى وصل التضخم لهذه الدرجة، وما الذي يحدث من شهر لآخر حتى يزداد عدم تنافسية الأسواق بهذا المستوى الكارثي ليواصل في توليد التضخم.
يبدو أن التفسير الأصدق لعلاقة زيادة المرتبات بالتضخم هو ما ورد في موازنة 2021 وعرضها الموجز، وما ذكرته وزيرة المالية المكلفة السابقة د. هبة في آخر أسبوع لها في الوزارة، حين ذكرت للزميل فيصل سعد في برنامج “مشكلة وحل”، على قناة سودان بكرة: “كانت الخطة الأصلية لزيادة المرتبات تقتضي أن لا تزيد عن ١٠٠٪، وأن تكون بالتدريج على مدى سنة، وأن تأتي بعد مراجعة شاملة للخدمة المدنية. وخلال التنفيذ تمت الزيادة بـ ٥٦٠٪ وده رقم خرافي، أدى لزيادة التضخم، وبقي الجنيه ما بيسوى شيء.”.
رفع الدعم أو ترشيده
في الحديث عن رفع الدعم نفسه، أو ترشيده في لغة البدوي والحكومة، فقد أكد أحد الخبراء الاقتصاديين المرموقين الآتي في حوار مع صحيفة الوطن في 30 أكتوبر 2019: “لن نلجأ لأي تغيير لنظام دعم السلع الحالي (إلا) بعد أن نحقق بعض الترتيبات الأساسية المتعلقة بالمواصلات العامة، ومراجعة الهيكل الوظيفي، وتعديل بعض المرتبات لمحدودي الدخل، وتحسين الميزانية، خاصة فيما يتعلق بزيادة حصيلة الواردات العامة من ضرائب وغيرها”. وذكر نفس الخبير لنفس الصحيفة في 13 نوفمبر 2019، أن البديل للدعم السلعي إما دعم شامل للكل مع ضرائب تصاعدية أو دعم مباشر مقيد لفئات. بعيداً عن الإثارة، فهذا الخبير المرموق هو السيد الدكتور إبراهيم البدوي نفسه، الذي حرص على أن يقرن أي حديث له عن الدعم السلعي في تلك الفترة بالدعوة الصريحة للحوار المجتمعي، وتوضيح البدائل للناس، وإذا أراد الناس استمرار الدعم السلعي فسيعتبر هذا قرار الشعب. وحق لنا هنا أن نسأل، إذا لم يستطع الدكتور إقناع اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير وهي المعبرة عن أكبر تحالف سياسي في تاريخ السودان، كما ظل قادتها يؤكدون، وإذا لم يستطع إقناع ممثلي لجان المقاومة، فما هو المجتمع المقصود بالحوار؟
تحدث الكثير من منتقدي برنامج البدوي عن آثار رفع الدعم بالطريقة التي طبقتها الحكومة، وفي ظل هذه الظروف. وقد ذكروا أن رفع الدعم عن الوقود ستترتب عليه زيادات عالية في تكلفة المعيشة في كل أنحاء السودان، وزيادة التضخم أيضاً، وهو ما ثبت للمواطنين بازدياد أسعار كل الخدمات والسلع، حتى السلع التي تعهدت الحكومة بأنها ستواصل في دعمها كالخبز (القمح) والكهرباء، وأقدمت على إعلان وتمرير الزيادات بطريقة لا تحترم الشعب ولا تتوافق مع شفافية الثورة، ولا الديمقراطية المرجوة.
ومع إصرار د. البدوي على رفع الدعم، فإنه طرح عدداً من الخيارات لتخفيف وطأته على المواطنين، وأعتقد أنه من الإنصاف القول إنها تدل على عدم إدراك كبير للواقع السوداني، مع مكابرة وإصرار على الاستماع لرجع الصدى فقط، لا لأصوات الخبراء العارفين والمواطنين. من هذه الخيارات التي اقترحها البدوي لتخفيف وطأة زيادة أسعار الوقود على تكلفة المواصلات والشحن، دعوته لأن تكافأ وسائل المواصلات العامة بإعفاءات ضريبية بعد أن تلتزم بالتعرفة الرسمية، وتقوم بدفع الضرائب المستحقة بإقرار ضريبي. الشرح الذي قدمه د. البدوي لهذه العملية لا يبدو أنه وضع حساباً لقدرة أصحاب وسائل المواصلات (والأغلبية العظمى منهم أفراد) على التعامل مع نظام معقد كهذا، ولا للزمن الذي ستحتاجه الأجهزة الحكومية المختصة، وعلى رأسها ديوان الضرائب نفسه لعمل البنية التحتية المطلوبة لتفعيل هذا النظام. ويبدو أيضاً أن الجميع يعلم خطل هذا الاقتراح، ولذلك لم نسمع عنه مرة أخرى بعد أن صار رفع الدعم واقعاً.
الدعم النقدي المباشر
ظل الدكتور إبراهيم منذ قبل توليه الوزارة يدعو لإنهاء الدعم السلعي والاستعاضة عنه بالدعم النقدي المباشر. وبعد توليه الوزارة بدأ في التبشير بالبرنامج الذي أطلق عليه فيما بعد اسم “ثمرات”، وأسس وكالة التحول الرقمي كهيئة تابعة لوزارة المالية تعمل مع عدد من الوزارات والهيئات، منها وزارات التنمية الاجتماعية والداخلية والعدل وبنك السودان وبرنامج الغذاء العالمي والبنك الدولي، ويستفيد ثمرات من برامج الحماية الاجتماعية التي نفذتها وزارة التنمية الاجتماعية ويطورها. وقد حدد د.البدوي بدقة أهداف البرنامج، وهي توفير تحويلات نقدية مباشرة قدرها 500 جنيه للفرد، لـ 80% من سكان السودان، لمدة 12 شهراً، يتم تمويلها بواسطة المجتمع الدولي، وتتم في غالبها عبر تطبيقات الهاتف المتحرك. ثم وضح الدكتور وآخرون أن المبلغ الشهري هو في الحقيقة 5 دولارات للفرد، وسيتم تعديل القيمة المحلية بحسب تغير سعر الصرف.
صاحب تأسيس الوكالة صراع خفي بين الوزارات، كما ارتبطت بها دعوة دكتور البدوي لتبني هوية قومية بمعلومات بيومترية على غرار بطاقة “أدهار” الهندية. وبعد استقالة البدوي صرح د. حمدوك في مؤتمر صحفي أنه سيتحول من الدعم المباشر لدعم الأسر المنتجة، ثم بعد فترة بسيطة عاد الحديث، بدون توضيح، من وزارة المالية عن برنامج الدعم الأسري المباشر، واختفى الكلام عن وكالة التحول الرقمي، بدون توضيح أيضاً. ولكن الربط المباشر بين رفع (ترشيد) الدعم (وأحياناً توحيد سعر الصرف “تعويم الجنيه”)، وتخفيف المعاناة عن المواطنين ببرنامج الدعم الأسري المباشر (وأحياناً برنامج سلعتي)، ظل ثابتاً وقوياً وصريحاً في الخطاب الحكومي للسيد رئيس الوزراء، وطاقم حكومته، ومنهم وزيرة المالية المكلفة السابقة، ومساعد كبير مستشاري رئيس الوزراء السابق، ودكتور البدوي عراب البرنامج. وقد تكرر في كل مرة تحدثوا فيها عن الوضع الاقتصادي، وكانت آخر مرة ذكر فيها د. حمدوك ذلك في المؤتمر الصحفي لإعلان الحكومة الجديدة في 8 فبراير، وآخر مرة ذكرت فيها د. هبة ذلك في آخر أسبوع لها في الوزارة. وقد “بشر” الاثنان الشعب السوداني بقرب بداية البرنامج، حتى ذكرت د. هبة أنه سيبدأ قبل نهاية الشهر الجاري (فبراير 2021).
يحمد للبرنامج الذي يشرف عليه صندوق النقد الدولي شفافيته ونشر وثائقه على شبكة الإنترنت لمن أراد الاطلاع عليها. توضح هذه الوثائق أن الحكومة السودانية قدرت تكلفة البرنامج بـ 1.9 مليار دولار في السنة لتغطية 80% من السكان، أي حوالى 32 مليون نسمة، في كل ولايات السودان، وأن مدة البرنامج سنتان. منذ وقت باكر (على الأقل سبتمبر 2020)، أكدت نفس الوثائق أن المبالغ المتاحة لتمويل البرنامج تقدر بـ 400 مليون دولار، ولذلك فقد خفضت الخطط التفصيلية التي وضعها البنك الدولي تغطية السكان لحوالى 11 مليون نسمة، على أن تكون البداية بـ 4 ولايات، وأن يكون الدعم المتاح للأفراد لمدة 6 أشهر بدلاً من 12 شهراً. يبدو واضحاً اعتماد المشروع على هبات المجتمع الدولي السخية، فمثلاً أعلن وزير الخارجية البريطاني عند زيارته للخرطوم تبرعه بحوالى 55 مليون دولاراً للبرنامج (لتغطية 1.6 مليون شخص)، وقبله الاتحاد الأوروبي (70 مليون يورو). وحين تطالعنا تهديدات المانحين للحكومة السودانية بعدم إطلاق المبالغ الممنوحة للسودان، إلا إذا أعلنت الحكومة عن تعويم الجنيه نرى بوضوح الأخطار التي تحيق بتنفيذ البرنامج وبقدرة الحكومة على اتخاذ القرارات التي تريدها وفق أولوياتها وحساباتها.
أمنيات د. البدوي ود. هبة ود. حمدوك بالاعتماد على التحويل عبر تطبيقات الهاتف النقال لتحويل مبالغ الدعم مباشرة دون وسطاء، توضح غربتهم عن الواقع السوداني وعدم طلبهم للخبرة في مظانها، إذا أحسنا الظن. أما إذا أسأناه، فإنها تدل على خداعهم للشعب. فوثائق البرنامج التي نشرها البنك الدولي توضح الصعوبات التي تكتنف استعمال هذه التقنيات، وأنها ستحتاج لزمن لتنفيذها، أما ما يعرفه العاملون في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات السوداني – وهم كثر – أن المدة التي تحتاجها مثل هذه التجهيزات لن تكون بحال أقل من شهور طويلة – إن لم تكن سنة فأكثر -، وهو ما يهزم الفكرة التي يروج لها د. حمدوك ود. البدوي وداعمو برنامجهما الاقتصادي، بأن ثمرات سيخفف صدمة الإصلاحات الاقتصادية على نسبة مقدرة من السكان. توضح خطط المشروع المشار إليها، أنه سيعتمد بصورة كبيرة على وسائل أخرى لتوزيع النقود بناءً على برامج وزارة التنمية الاجتماعية السابقة، وهنا نلاحظ أن نسبة الهدر – ومن ضمنها فساد – في هذه البرامج تصل 50% كما في تصريحات سابقة لدكتور البدوي.
أما وكالة التحول الرقمي التي أسسها د. البدوي، فيكفي أن نقول إنها قد اختفت بعد استقالته، وهو ما يشير إلى أنها لم تقم على قدمين أو لحاجة حقيقية رغم المعركة التي دارت حولها بين وزارات المالية والداخلية والعمل وتم حسمها برعاية من المانحين. إلا أنه يجدر القول بوضوح، إن ربط برنامج الدعم الأسري المباشر بالهوية القومية ذات المواصفات البيومترية أمر في غاية الخطورة على الأمن القومي للسودان ولحريات المواطنين السودانيين وخصوصياتهم. واجه البرنامج الشبيه في الهند – التي تفخر بكونها أكبر ديموقراطية في العالم – معارضة شديدة من سياسيين وخبراء تقنية ومفكرين ونشطاء لما رأوا فيه من إمكانيات مستقبلية للحد من حريات المواطنين وحقوقهم الدستورية، وتهديد خصوصياتهم، وتهديد الأمن القومي للبلاد. وقد تحققت بعض هذه المخاطر بالفعل على أيدي الحكومة اليمينية المتطرفة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، التي يعلم كثير من القراء ممارساتها القمعية العنصرية غير الديمقراطية وغير الدستورية، من استعمال البيانات لإلغاء مواطنة مئات الآلاف من المسلمين مثلاً، أو من الاختراقات الأمنية للنظام. إن لم يتضح الخطر بعد، فيمكن القول باختصار أن أجهزتنا الشرطية والأمنية ومؤسساتنا متخلفة بسنين ضوئية عن مثيلاتها الهندية، سواءً من ناحية الإمكانيات التقنية أو الأمنية أو السايبرية أو الديمقراطية أو الدستورية.
هناك أسباب أخرى لم يكلّ الدكتور إبراهيم البدوي ومناصرو برنامجه من الاستدلال بها على ضرورة رفع الدعم عن الوقود، منها التهريب، ودعم غير المحتاجين (وقد أفلحوا في تنميط المستفيدين من الدعم بصورة سائقي البرادو). ولم يستطع أي من المسؤولين أو المناصرين أن يقدموا أرقاماً لحجم التهريب، ولا للقدرات اللوجستية الخارقة للمهربين التي تتيح لهم قطع الفيافي واختراق الحدود بأساطيل حاملات الوقود بكميات تستطيع أن تحدث كل هذه الاختلالات في أسواق الوقود الداخلية، ولم يستطيعوا أن يقولوا إن التهريب جريمة يقع عبء منعها على أجهزة الشرطة والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية المختلفة.
أما مثال البرادو ودعم غير المحتاجين، فينطبق حقيقة على أجهزة الدولة ومؤسساتها العسكرية والنظامية، وهي أحد أكبر مشتري الوقود في السوق السوداني، بينما ذكر كثير من الاقتصاديين أنه يمكن فرض ضرائب متصاعدة على ممتلكي السيارات الفخمة كالبرادو وغيرها. وأما فرية أن الدعم يستفيد منه غير المحتاجين لأن الفقراء لا يركبون سيارات خاصة، فتكذبها الزيادات التي طالت أسعار المواصلات العامة التي يستخدمها المواطن البسيط، كما طالت أسعار كل سلعة في جميع أنحاء السودان، بعد رفع الدعم عن الوقود، وتكذبها أيضاً زيادة التضخم في الأرياف بنسبة أكبر منها في الحضر، كما لاحظ د. معتصم الأقرع من أرقام التضخم الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء.
البرنامج الآخر الذي أدخله دكتور البدوي وطاقم الحكومة الاقتصادي في ترسانته لتخفيف آثار صدمات رفع الدعم وتعويم الجنيه، هو برنامج (سلعتي)، ويكفي لتوضيح قدراته أن نذكر أن وزير التجارة والصناعة السابق مدني عباس أورد في تقريره الختامي، أن هذا البرنامج لم يتوفر له سوى 10% من الميزانية اللازمة لتمويله.
برنامجا (ثمرات) و(سلعتي) ليسا بالضرورة برنامجين سيئين، بل يمكن القول إن أهدافهما جيدة عموماً إذا أحسن تطبيقهما، ولكنهما لا يمكن بحال أن يخففا من آثار صدمة تطبيق رفع الدعم وتعويم الجنيه على المواطنين السودانيين، لأنهما لا يقتلعان جذور التضخم والندرة، ولأنهما سيحتاجان لزمن طويل لتنفيذهما، ولأنهما في الوقت الراهن غير قادرين على تغطية نسبة مقدرة من السكان المستهدفين، ولأنهما يعتمدان بصورة كبيرة – شبه مطلقة في حالة برنامج ثمرات – على منح المجتمع الدولي، التي طعمنا سمها في موازنة 2020.
تعويم الجنيه أو توحيد سعر الصرف
الكارثة الأكبر التي يسوقنا لها برنامج الحكومة الاقتصادي بقوة عين وعدم مسؤولية غريبين، هي التوحيد الفوري لسعر صرف الجنيه، أو تعويم الجنيه الذي صار واقعاً بعد قرارات الأحد 21 فبراير. وقد وضح عدد من الخبراء خطورة هذا القرار، ومنهم الاقتصادي فاروق محمد نور كمبريسي، الذي ذكر في لقائي معه في برنامج “وإن طال السفر” على قناة سودان بكرة في يناير الماضي، أن التكلفة السياسية لتخفيضات العملة السودانية تاريخياً منذ تدخل البنك الدولي سنة 1978 كانت كبيرة جداً، وهو يرى أنها بذرت بذور سقوط نظام نميري، والديمقراطية الثالثة، ونظام البشير. وقد أشار فاروق عدداً من المرات إلى أن التكلفة السياسية هذه المرة قد تؤدي لسقوط الحكومة الانتقالية.
وقد ذكر الدكتور التجاني الطيب أن توحيد سعر الصرف يقتضي عدداً من الإجراءات لمعالجة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي، ووضح أن هذا يتم في المتوسط خلال 3-5 أعوام في الدول النامية أو الأقل نمواً كالسودان، وتحدث عدد من الخبراء الاقتصاديين مراراً عن أولوية خفض عجز الموازنة العامة، وخفض التضخم قبل الحديث عن تعويم العملة، وأن خطورة تعويم الجنيه الآن أنه سيدفع بقيمته نحو الهاوية، وهو ما شهدنا مثاله في عدد من الدول، منها زيمبابوي وفنزويلا ولبنان.
وذكر الدكتور البدوي نفسه في 30 أكتوبر 2019 فيما يتعلق بالدعم، يتوجب توفير قيمة 3 أو 4 أشهر من الواردات عبر بنك السودان عند توحيد سعر الصرف، وعمل كل الترتيبات المؤسسية، وإصلاح القطاع المالي. أشار الكثيرون أيضاً لضرورة توفير رصيد من العملات الأجنبية لدى بنك السودان قبل تعويم الجنيه، وقد ذكرت الدكتورة هبة أرقاماً تقل عن المليار دولار. ومع تلك الإشارات كانت المقارنة حاضرة مع النموذج المصري للتعويم، وبينما يقرون جميعاً بأن مصر أقدمت على تحرير سعر صرف الجنيه، حين كان لديها عشرات المليارات من احتياطيات العملات الأجنبية في نظامها المصرفي – منها نسبة معتبرة أتت كمساعدات من دول صديقة – فإن مناصري برنامج الحكومة لم يتورعوا عن التقليل من أهمية هذه الاحتياطات مع دعوتهم لتحرير سعر صرف الجنيه السوداني، وبالطبع فهم يغفلون التكلفة السياسية للحصول عليها، وأيضاً يغفلون أثر تعويم الجنيه المصري على غالبية الشعب المصري من زيادة الفقر وعدم المساواة فيه، رغم تحسينه لمؤشرات الاقتصاد الكلي.
وقد ذكر د. البدوي أنه من غير المنظور أن نتحصل في السودان على احتياطي يوازي ما وفرته مصر قبل التعويم، ولذلك فهو يرى اتخاذ إجراءات “ناظمة وأمنية وجزائية” وأيضاً مخاطبة الروح الوطنية لدى تجار العملة، وأترك التعليق للقراء الذين راقبوا تذبذب سعر الصرف خلال الأشهر القليلة الماضية، ولسان حكومتنا ورئيس وزرائها الانتقالي قد أكله الطير، فسكتوا عن التعليق عن هذا التدهور الجلل.
وقد ذكر البدوي وهبة أنه سيحدث تجاوز لسعر الصرف (overshooting) مباشرة بعد التعويم، ولكن السعر سيستقر بعد فترة قد تطول أو تقصر. ذكرت د. هبة أنها قد تكون 3 أشهر، ورغم معادلات د. البدوي الرياضية فلا يبدو أن حقائق الواقع على أرض السودان تعضد هذه الوثوقية التي يتحدثان بها، خصوصاً أن انخفاض سعر صرف الجنيه جعل المستوى الواقعي الذي تنبأ به د. إبراهيم في أكتوبر الماضي (140 جنيهاً للدولار الأمريكي) أقرب لمزحة فجة. كما يعتقد بعض الاقتصاديين مثل الدكتور معتصم الأقرع أن أطروحة روديغر دورنبوش عن تجاوز سعر الصرف تستند إلى افتراضات وعلاقات اقتصادية بين أسواق المال والسلع لا تتوفر في السودان. أضف إلى ذلك أن تجاوز سعر الصرف (overshooting) حتى لو تحقق لا يعني الكثير، وكل ما يعنيه هو أنه بعد التعويم مثلاً سينهار سعر الصرف بدرجة كبيرة، ولكنه سيتحسن قليلاً بعد فترة، وهذا التحسن لا يعني أنه سيقارب مستواه قبل التعويم بأي حال من الأحوال. فعلى سبيل المثال لو كان سعر الصرف التوازني بعد التعويم 600 جنيه للدولار، فمن الممكن أن ينخفض السعر بعد التعويم إلى 650 جنيهاً، ولكنه بعد فترة سيعود إلى سعر التوازن، أي 600 جنيه للدولار.
هناك مغالطة مبدئية في مقاربة د. البدوي لتحرير سعر صرف الجنيه السوداني، وهي أنه يرى تعدد أسعار الصرف، وارتفاع السعر الرسمي، سبباً في إضعاف قدرة الصادرات السودانية على المنافسة، ومن ثم في زيادة عجز الميزان التجاري بسبب تناقص الصادرات. ويبدو هذا الرأي كأحد تجليات عدم معرفة د. البدوي ومناصري برنامجه بالواقع الاقتصادي السوداني، فعدم تنافسية الصادرات السودانية سببها الأكبر ضعف الإنتاج الذي تسببت فيه الدولة منذ زمن الإنقاذ، ولا يبدو أن حكومتنا الانتقالية تعمل شيئاً جاداً مختلفاً لمعالجته. باختصار، فنحن لا نقوم بإنتاج محاصيل زراعية أو منتجات صناعية مثلاً، ثم لا يشتريها المستوردون العالميون؛ لأن أسعارها غالية بالجنيه السوداني الرسمي. لو كانت صادراتنا تترى ويقف في سبيل عبورها حدود البلاد جنيهنا المرتفع القيمة لجاز طرح تخفيضه كأحد حلول جعلها أقدر على المنافسة في الأسواق العالمية.
وفي مقابل ذلك، فإن بلادنا تعتمد بصورة شبه كاملة على الاستيراد، وكما ذكرنا فهذا أحد آثار التركة الثقيلة لنظام البشير، وبسبب ذلك فإن أي انخفاض في سعر الجنيه – أو أحد أسعاره الرسمية المتعددة – سيؤدي لارتفاع أسعار الواردات، وأسعار كل المنتجات التي تعتمد على مدخلات إنتاج مستوردة، وهو ما سيزيد التضخم، ويؤدي إلى مزيد من الانهيار للوضع الاقتصادي، وإلى انخفاضات متتالية لسعر صرف الجنيه، وزيادات في التضخم. بالمصطلحات الاقتصادية، فإن الصادرات أقل مرونة مع سعر صرف الجنيه السوداني (لا تتأثر الصادرات بتغير سعر الصرف)، بينما سعر الصرف أكثر مرونة مع الواردات (يتحرك سعر الصرف بتناسب مطرد مع الواردات).
وعلى كل حال، فحسب د. معتصم الأقرع فإن مستوى الصادرات والواردات لا يعتمد على سعر الصرف الاسمي، بـل على سعر الصرف الحقيقي، أي سعر السوق أو البنك مقارنة مع معدل التضخم في السودان، مقارنة مع معدلاته في بلدان المنافسين والشركاء التجاريين. وهذا يعني أن تحسين تنافسية الصادرات والسلع المنتجة محلياً كبدائل للواردات، يتم أيضاً بالسيطرة على التضخم، وأن تخفيض قيمة الجنيه في سياق تضخم انفجاري سوف يضعف التنافسية الدولية للاقتصاد السوداني بدلاً من تحسينها.
البرنامج المراقب من موظفي الصندوق “Staff-Monitored Program“
بعد كثير من الجولات والمفاوضات والزيارات والاجتماعات والتصريحات، اتضح أن حكومة الفترة الانتقالية تضع كل بيضها في سلة المانحين من مؤسسات التمويل الدولية وبعض الدول الغربية والعربية، وقد ترجمت هذا باتفاقها مع صندوق النقد الدولي على برنامج مراقب من موظفي الصندوق، ينص أساساً على تعويم الجنيه، ورفع الدعم، وعدد آخر من الإجراءات التي يراقبها موظفو الصندوق خلال فترة البرنامج الممتدة بين يوليو 2020 ويونيو 2021، وهو البرنامج الذي يصوره لنا مؤيدو برنامج الحكومة بأنه طريقنا الوحيد للخلاص ولإصلاح الاقتصاد السوداني. وهم يتجنبون، وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم البدوي، الإجابة الصادقة على السؤال الذي يذكرهم، بأن هذا هو البرنامج الخامس عشر من سلسلة البرامج المراقبة من موظفي الصندوق التي وضع الصندوق منها أربعة عشر سابقين في عهد النظام البائد فشلت جميعها، فما الضامن أن ينجح هذا الأخير؟
ورغم أن تقارير الصندوق نفسها تبين المخاطر الكبيرة التي ستتبع تطبيق هذا البرنامج، بما فيها من قسوة على جماهير الشعب السوداني، قد لا يستطيعون تحملها، ومن بينها “الدعم المحدود للمانحين”، إلا أن حكومتنا تبدو غير مكترثة لهذه النصائح الهامسة من الصندوق، بينما تستمع بإذعان شديد لتهديدات المجتمع الدولي والمانحين التي أصبحت أعلى نبرة، كما وضح الدكتور خالد التجاني في صحيفة السوداني يوم 4 فبراير حزمة الاشتراطات والتوجيهات التي تضمنها بيان اجتماع أصدقاء السودان في ألمانيا أواخر يناير الماضي، حيث طالبوا “الحكومة السودانية الالتزام بالتنفيذ السريع لمزيد من خطوات الإصلاح”، وشدّدوا “على الحاجة الملحة لمعالجة إصلاح سعر الصرف دون مزيد من التأخير”، واعتبر بيان الأصدقاء ذلك بدون مواربة “شرطاً أساسياً لتقييم أداء السودان”، و”كشرط للاستفادة الكاملة من الدعم المقدم من قبل الشركاء والمؤسسات المالية الدولية”. وقد بين د. خالد أن الحكومة لم تضع البرنامج المراقب ضمن مرجعيات الموازنة، ويتساءل– محقاً – عن دواعي إخفاء هذا الأمر. وقد بلغت وقاحة المانحين وممثليهم أن صارت تهديدات سفرائهم وموظفيهم بعدم تحويل المساعدات إلا إذا تم تعويم الجنيه علنية في مختلف وسائل الإعلام والوسائط الاجتماعية، كما تشهد على ذلك تصريحات السفير البريطاني السابق والسفيرة النرويجية الحالية. ولن يستطيع نفي وزير المالية الحالي د. جبريل إبراهيم في مؤتمر إعلان تعويم الجنيه لأن يكون القرار اتخذ نتيجة ضغوط أجنبية، إخفاء هذه الحقيقة الناصعة.
زيادة الجهد “التحصيل” الضريبي
ومن النقاط الأساسية في خطاب الحكومة الاقتصادي وبرنامج الصندوق، أن نسبة التحصيل الضريبي للناتج المحلي في السودان أقل من المتوسط الأفريقي، ويجب أن تزيد بمقدار الضعف تقريباً من نحو 6% إلى 12%، لتمكن الاقتصاد السوداني من وضع قدميه على خطى الخروج من القاع، ولكن شكك في هذه النسبة عدد من الاقتصاديين منهم د. التجاني الطيب، الذي ذكر في حوار مع صحيفة الديمقراطي يوم 21 أكتوبر 2020، أن نسبة الـ 6% هي فقط للإيرادات الضريبية الرسمية، ولا يدخل فيها التجنيب، والزكاة، ورسوم الولايات، وهنا أيضاً فإن عجز الحكومة عن تحصيل هذه الإيرادات تقابله الحلول السهلة التي ترهق المواطن بمزيد من الضرائب غير المباشرة، مثل الزيادات في ضرائب القيمة المضافة للاتصالات، والرسوم الحكومية.
من المستفيد من برنامج الحكومة؟
برغم تزيين خطابات الحكومة بشعارات الثورة، فالفحص الدقيق لبرنامجها الاقتصادي يوضح أنها لم تملك عزيمة حقيقية لتغيير مسار الاقتصاد السوداني الذي خلفه النظام البائد، ويبدو الفرق الأكبر في الارتماء في أحضان مؤسسات التمويل الدولية والمانحين، وهو ما لم يكن متيسراً لنظام الإنقاذ. لا يبدو أن الحكومة تراعي في قراراتها مصالح غمار المواطنين، فرغم قدرتها على القيام بخطوات عديدة تسهم في إصلاح الاقتصاد، لكنها اختارت عدم اتخاذها؛ لأنها ستهدد مصالح القوى المتنفذة في سودان اليوم، من رأسمالية نمت وترعرعت على السحت أيام البشير، ومليشيات استولت بغير حق على ثروات الوطن، وأجهزة عسكرية وأمنية لم تقم بدورها في حماية المواطنين ولا اقتصادهم، بينما احتفظت بإمبراطورياتها الاقتصادية بعيدة عن أعين أصحاب الشأن من أبناء الشعب وقياداتها تمد ألسنتها للحكومة المدنية لعجزها وفشلها. لذلك كان الأسهل دوماً السير في طريق يزيد حياة المواطنين صعوبة ومسغبة، وتكرار التعليل الفطير لدكتور البدوي، بأن الشعب بعد الثورة سيستحمل إن تم توضيح الأوضاع له، دون أن يفهم تحذير تقرير صندوق النقد الدولي من تآكل رصيد الحكومة، وضيق نافذة تقبل الجماهير لأي إجراءات اقتصادية قاسية.
من الشواهد على أن البرنامج الاقتصادي للحكومة يخدم نفس القوى المستفيدة في زمن الإنقاذ – باستثناء بعض رموز النظام المعروفين طبعاً – عجز الحكومة المخزي عن اتخاذ إجراءات تسيطر على إنتاج الذهب (ممن لا يملكون الحق في ذلك)، وتنظم عملية تصديره، وهو أحد أهم أسباب انخفاض سعر الصرف وزيادة التضخم. ورغم توضيح د. البدوي لموقفه من قضية الفاخر، بل وطلبه الصريح من رئيس الوزراء التحقيق فيها، وهو ما لم يحدث ولم يهتم أحد بإطلاع الشعب عما جرى فيه، إلا أن إجاباته المتكررة برفض الدعوات لسيطرة بنك السودان على عملية التصدير لا تبدو مقنعة.
ومنها أيضاً محفظة السلع الاستراتيجية، التي وضح الخبير الاقتصادي الهادي هباني في مقالة من جزءين في يونيو 2020، أنها تسلم استيراد السلع الاستراتيجية على طبق من ذهب – بدون مخاطر تذكر – لنفس (المافيا) التي كانت متحكمة في قوت الشعب وسلعه القومية في عهد النظام البائد، من بنوك (الخرطوم، والبركة، وفيصل، وأمدرمان الوطني)، ومصدري الذهب، وشركة الجنيد، ورجال أعمال.
ومن هذه الشواهد أيضاً الدعوات التي انطلقت لخصخصة بعض الأصول المستردة بواسطة لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال، ومن نافلة القول، إن ذلك يعني تسليمها مرة أخرى لكوادر النظام القديم المستترة أو طبقة رجال الأعمال التي ظهرت واغتنت في عهدهم.
وفي مقابل ذلك، ظل الدكتور إبراهيم وخليفته في الوزارة ومجمل خطاب الحكومة، يوحون بصعوبة قيام الدولة بالسيطرة على تصدير أهم منتجاتها ومحاصيلها عبر الشركات القومية، التي كانت تقوم بهذا الدور قبل أن يقوم نظام المؤتمر الوطني بتدميرها. وقد لاحظ الدكتور حسام الدين إسماعيل الاقتصادي بلجان المقاومة من قبل أن الدكتور إبراهيم البدوي ظل يطرح مشكلات لكل الحلول التي قدمها معارضو برنامجه – مثل الدعوات لإصلاح هذه الشركات – بقوله بصعوبة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ هذه الحلول، على عكس السهولة التي اتخذ بها قرارات كان المنطق يقول إنها أكثر صعوبة وضرراً.
خاتمة
إن المواصلة في تنفيذ البرنامج الاقتصادي للحكومة تهدد بكارثة حقيقية على الوطن والمواطنين، وعلى مصير الثورة والانتقال الديموقراطي، وعلى جميع القوى السياسية أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية لإيقاف هذه الكارثة، وخصوصاً القوى المسيطرة على ما تبقى من هياكل قوى إعلان الحرية والتغيير، ولا سيما المشاركة في الحكومة (حزب الأمة القومي، وحزب المؤتمر السوداني، والتجمع الاتحادي، وحزب البعث العربي الاشتراكي)، حتى وإن اقتضى الأمر أن يذهب دكتور حمدوك وحكومته. وإلى ذلك الحين فيجب أن يكون معلوماً أن السيد حمدوك هو المسؤول عن الأوضاع البائسة للاقتصاد السوداني، وعن التدهور المتوقع الذي ستشهده، كما يجب أن يكون معلوماً أن كثيراً من الخيارات كانت متوفرة لديه ولطاقم الحكومة الاقتصادي، ولكنهم اختاروا هذا الدرب الذي لا يملك – للأسف – أي فرص موضوعية لأن يحقق إصلاحاً اقتصادياً، يصب في مصلحة غالبية جماهير الشعب السوداني الكادحة والصابرة والعظيمة.